[Ar] Critique de la raison islamique (Suite) محمد أركون و التحدّي النقدي للعقل الإسلامي

Publié le par ZINE

حقوق الفكر و مسؤولية المثقف النقدي
ليس من السهل هضم فكر محمد أركون الذي يتّسم بالجرأة النقدية و التي لم يسبق لفكر مستنير أن مهّد لها السبيل إلاّ نادرا. مردّ ذلك هو سيطرة عقلية النبذ و الإقصاء و الوعي السلبي المنغلق على وثوقيته و دوغمائيته عبّر عنها الدكتور نصر حامد أبو زيد أحسن تعبير "التكفير في زمان التفكير". يتعرّض أركون بدوره إلى الإتهامات الجارحة التي تستهدف شخصه و فكره. لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر يغضّ الطرف عن التحوّلات و التطوّرات الباهرة التي تشهدها العلوم الإنسانية و الإجتماعية مفضّلا الإنغلاق في نرجسيته و اجترار ماضيه. ما سبب هذا اللاإحساس تجاه التيارات الفكري النقدية و المتطورة و التي لا تنفك عن مراجعة بديهياتها و تحديث آلياتها و نقد ذاتها؟ هل ثمّة أسباب تاريخية و سياسية أم سبب ضمني يمسّ عقلية الخمول الفكري؟ لا ينفك هذا الفكر عن ذرائعية و براغماتية هجينة تقوم على استغلال الإبتكارات و الإكتشافات العلمية المعاصرة في الوراثة و البيولوجيا و الفلك لتدعيم سلطته التراثية بمعنى عبقرية العلم في خدمة سلطة النص.
من جملة ما تعرّض له فكر أركون هو اختلاق فكرة "أسطورية النص المقدّس" كرنين يقع أثره وقعا على المسامع و الأذهان دون تحمّل عناء و مشقة تحديد المصطلحات و المفاهيم و كذا إخفاء الأسس و المنطلقات التي يقوم عليها الخطاب الإسلامي المعاصر و هي إرادات القوّة في سبيل السيطرة التامة و الهيمنة المطلقة. و مثال "أسطورية" النص المقدّس هو أن هذا الخطاب يحجب الإطار المعرفي لهذا المفهوم ليستبدله بواقع التهويل و التدجيل لأنه إذا كان هذا الخطاب يمتنع عن الإلتفات إلى خزائن الفكر النقدي و العقل العلمي فكيف يتسنّى له معرفة أن مفهوم "الأسطورة" بالمعنى الأنثروبولوجي و الفينومينولوجي لا علاقة له بالترّهات و الخرافات و الأباطيل؟ لا تزال هذه الأخيرة تستحوذ الفكر الذي يكتفي بميزان الصحة و الخطأ و المنطقي و اللامنطقي و الصدق و البطلان و كل ما له صلة بالثنائيات الجامدة و المتصلّبة. فالأسطورة كما يعلّمنا الفكر الحديث في المخيال و الرمز و الأساطير تحيل إلى معنى مثالي ذو حمولة رمزية وافرة، فوق-تاريخي و عابر للأحداث. لكنها تتحوّل إلى أساطير سلبية و إيديولوجيات عندما تسيطر التمثلات الفردية و الجماعية و يجد العقل نفسه أسير تصوّرات و تهويمات لا تنفك عن نمط السلطة الممارَسة. لهذا السبب لم يعزل الفكر الأنثروبولوجي المعاصر "إنتاج المعنى" عن "سلطة الهيمنة" (جورج بالاندييه) أو تواطؤ "العنف الرمزي" مع "المقدّس المفارق" (روني جيرار). من هذا المنظور، الطلقة الفاعلة و المحرّكة للأسطورة تسيّر و تدير كل عقل تخطيطي كتابي سواء أكان رمزيا، إستعاريا، شعريا أم مقدّسا. و هو ما تسمّيه الهيرمينوطيقا الكلاسيكية "الهيبونويا" (Hyponoïa) أي المعنى الجوّاني أو الإنبثاق الخلاّق للوغوس الباطني (verbum interius).
فلا يكفي إذن معالجة نص رمزي و استعاري و شاعري (مثل النص "المقدّس") بنزعات تلفيقية أو دفاعية تختفي وراءها مقاصد الهيمنة و القوّة. مثال الأسطورة، كغيره من الأمثلة، يبيّن إلى أيّ حدّ لا يزال العقل الإسلامي في وضعيته البائسة على هامش إرادات المعرفة النقدية و يكرّر نفس الشعارات المطالبة بفتح مصراع الإجتهاد مع أن النشاط الضروري و العاجل اليوم الذي يفرضه الواقع العربي هو "نقد" العقل المؤسّس لمنظومات المعرفة الإسلامية و نقد الواقع بكل تناقضاته و تشعّباته و قواه الفاعلة. فلا يتعلّق الأمر باجتهاد لا يؤسّس قطيعة معرفية مع وجوهه الماضية و أصوله العريقة و إنما بنقد كتأزيم و "أشكلة" و تفكيك حثيث و متواصل لطبقات الخطاب و رسوبيات الفكر قصد تأسيس نمط فكري مجدّد و متجدّد لا ينفك عن المساءلة و المغامرة. هذا النشاط الفكري الدؤوب من شأنه أن يضمن "حقوق الفكر" (كما نتحدث عن حقوق الإنسان و الحيوان) أي حقه في الإختلاف و المساءلة و الأشكلة و المقاربة و المناظرة بعيدا عن الوصاية و الأستذة. حق الفكر في تعاطي المعرفة النقدية يقتضي عقلا ذا مسؤولية نقدية و ليس مثقفا "عضويا" يكبّل ذهنه و فكره بنزعات إيديولوجية تخدم مصالح فئات و طبقات و لا تراعي "حقوق الفكر". سجن الذهن في مؤسسات الفكر الإيديولوجي و المعنى السلطوي من شأنه أن يخلق طفرات و مهاوي عميقة لا تزال بارزة اليوم في هزال الفكر و الثقافة و السياسة الخالقة لكل أنواع "التيراتولوجيا" [1] في الثقافة و الأخلاق و الهوية. يدعو فكر محمد أركون إلى ممارسة فكرية أو نشاط نقدي حرّ و متحرّر و محرِّر يعطي لحقوق الفكر أبعادها العالمية و يستبدل الواقع الفكري المليء بصور التصنّع و الكليشيهات و الكوكتيل المعرفي المجزّأ و السطحي واقعا نقديا أكثر جرأة و مسايرة للأحداث و الوقائع الراهنة.
 
مراجع :
محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، باريس، 1984
محمد أركون، الفكر العربي، باريس، المطبوعات الجامعية، 1975
محمد أركون، الإسلام و الدين و المجتمع (بالإشتراك مع م. أروزيو و م. بورمانس)، منشورات سيرف، 1982
محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب : رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة و إسهام هاشم صالح، دار الساقي، بيروت/ لندن، 1995
محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ درا الساقي، بيروت/ لندن، 1995
محمد أركون، من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1991
رفيق بوشلاكة، حول "الديمقراطية. تحدّي للفكر الإسلامي" لمحمد أركون. دراسة و نقد أفكار الدكتور محمد أركون، إسلام 21 (المنتدى العالمي من أجل الحوار الإسلامي)، عدد 18، أوت 1999.
هاشم صالح، جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي، مجلة "المعرفة"، السنة 18، عدد 216، شباط 1980، دمشق/ سورية.
علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 1993.                


[1]"التراتولوجيا" (Tératologie)، الأشكال "الوحشية" للكائنات الحية.

 

Publié dans philozine

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article